«علاء طه» يكتب.. أبيض وأسود حرب نهاية العالم

علاء طه

علاء طه

بحسب رواية معروفة، قام ضابط ألماني بزيارة بابلو بيكاسو في مرسمه الباريسي في أيام الحرب العالمية الثانية. وهناك صعق الضابط بلوحة "غرنيكا" وما فيها من "فوضي" حداثية. فسأل بيكاسو: هل أنت من فعل هذا؟، فرد بيكاسو بهدوء: لا، أنتم فعلتم هذا.

لوحة غرنيكا الغارقة بالرموز في ألوان الزيت بالأزرق الداكن والأبيض والأسود، المعروضة في متحف مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون في مدريد، استوحاها بيكاسو من قصف طائرة حربية ألمانية مدينة غرنيكا، في 26 أبريل 1937 بغرض الترويع خلال الحرب الأهلية الإسبانية. لم تمر ثلاثة أشهر على هذه الواقعة حتى أنجز بيكاسو هذه اللوحة لعرض مأساة الحرب والمعاناة التي تسببها للأفراد، وقد صارت معلماً أثرياً، لتصبح مذكراً دائماً بمآسي الحروب، إضافة لاعتبارها رمزا مضاداً للحرب وتجسيداً للسلام. بعد الانتهاء منها طافت اللوحة في جولة عالمية موجزة العالم لتصبح من اللوحات الأكثر شهرة كما أن جولتها تلك ساهمت في لفت أنظار العالم للحرب الأهلية الإسبانية.

والحوار المفعم بالرمزية بين بيكاسو والضابط الألماني تجسيد آخر لمآسي الحروب ليس علي البشر والعمران والاقتصاد بل على الروح والأدب والفن.

وهذا ما دفع الروائي الفرنسي الشهير ميلان كونديرا يمقت الحرب في كتابه "ثلاثية الرواية"، ويكشف ألاعيبها وتُجارها ونافخي نيرانها، فيكتب بأن " الحدث الحاسم لتحول العالم هذا إلى فخ كان دون شك حرب 1914 التي يطلق عليها للمرة الأولي في التاريخ الحرب العالمية، عالمية علي نحو مزيف، فهي لم تكن تخص سوي أوروبا، لا بل جزءً من أوروبا لا أوروبا كلها. على أن صفة "عالمية" تعبر بفصاحة عن شعور الهلع إزاء حقيقة أنه لا شيء من الآن فصاعدًا مما يجري على سطح المعمورة يمكن أن يبقي قضية محلية، وأن الكوارث كلها تعني العالم كله، وأننا من ثم بتنا خاضعين أكثر فأكثر لعوامل خارجية، لأوضاع لا يستطيع أي امرئ الفرار منها، أوضاع تجعلنا نشبه أكثر فأكثر بعضنا البعض الآخر".

114 عامًا مرت على الحرب العالمية الأولي، ولم يتعظ العالم، الحروب تنشب بلا رحمة كأنها وباء متحور، وهو ما دفع الروائية الفائز علي نوبل آني آرنو في رواية المكان لأن تقول: "هزت الحرب الزمن"، لكنها في غزة ولبنان وسوريا هزت الحرب بالعام الذي يلفظ أنفاسه 2024 ثوابت وأعمدة وضمير العالم. بدا مصطلح "الحرب العالمية الثالثة" الذي ردده ترامب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة مثل حفلة ألعاب نارية في نهاية العام، فما يحدث في الشرق الأوسط من عدوان إسرائيلي يفوق مصطلحات الحرب، ويعلو لجرائم الإبادة والتطهير العرقي وحرق الأرض وتدنيس جثث البشر حتى تلغ في دمائها الكلاب وهو المشهد الأخير لما حدث في جباليا. وفي تفاصيل الحرب تعرت أمريكا وانكشفت لتبدو دولة بلا مبادئ ولا أخلاق فبدونها لم تكن تستمر إسرائيل لا في الوجود ولا في الحرب لأكثر من أسبوع واحد.

ما يحدث في غزة وبيروت ودمشق يُخاصم مصطلحات الحروب العالمية إلى ما يمكن أن نسميه حرب نهاية العالم. حرب ترتفع عن أهداف الغزو وضم الأراضي والاستيلاء على الموارد إلى أطماع الأصوليات الدينية المشوهة في نهاية العالم وظهور المسيح وأرض الميعاد.

"الأصولية" هنا مزيج من المسيحية المتطرفة واليهودية المتشددة والإسلام السلفي، وهو ما تُعرفه البريطانية كارين أرمسترونج الخبيرة بمقارنة الأديان، بأنها "شكل من أشكال الإيمان المخرّب أو المهووس بفكرة العنف، والأصوليون يرون في استخدامهم لوسائل العنف محض وسيلة مبررة لبقائهم على قيد الحياة وسط بيئة يحسبونها طاردة لهم".

الأصوليات كلها تجمعت في الشرق الأوسط بالبارود والصواريخ الباليستية والمسيرات. اليمين المتطرف اليهودي يدير الحرب من قبو تحت القدس، والمسيحية الإنجيلية المتشددة تخطط وتدبر وترتب وتهندس من البيت الأبيض في واشنطن، والدواعش والنصرة والميلشيات الشيعية والعثمانيون الجدد يغيرون القواعد ما بين طهران والضاحية الجنوبية وصنعاء وإسطنبول ودمشق، والوليد كيانات مشوهة وإدارات مشوهة في غزة والضفة والجنوب اللبناني وسوريا، فإلى أي مدي سنذهب في الحرب العام القادم بعد أيام؟ لست متفائل بالإجابة على الإطلاق

يمين الصفحة
شمال الصفحة