معرض الكتاب والقاهرة: أيقونة حب وعلاقة عضوية لا تنفصم

???? ??????

???? ??????

مع حلول الساعات الأخيرة لليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يختتم غدا "الثلاثاء" تثير العلاقة بين المعرض ومدينته الحاضنة الكثير من التأملات والكتابات التي تؤكد أن العلاقة بين معرض الكتاب والقاهرة "علاقة عضوية لا تنفصم" وهي علاقة دالة وموحية حقا لكتابات جديدة في "ثقافة الزمان - المكان".

فمعرض القاهرة الدولي للكتاب ذاته كان وليد أفكار الاحتفال بمرور ألف عام على تأسيس مدينة القاهرة بقدر ما أضحى هذا المعرض شاهدا على تطور القاهرة وتاريخها عبر نصف قرن وبقدر ما تأثر بهذا التطور ليتغير مكانه ثلاث مرات.

وإذا كانت دورة اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب لم تغفل أبدا ذلك التزامن بين المعرض عبر 50 عاما والتوقيتات المؤسسة للقاهرة التي تعد حاضرة ثقافية كونية بامتياز فإن الدراسات الثقافية المعنية ببحث المتغيرات في "ثقافة الزمان - المكان" وفهم دلالاتها لها أن تتوقف طويلا أمام ظهور هذا المعرض في أيام فاصلة وتحديات خطيرة لإزالة آثار عدوان حرب الخامس من يونيو عام 1967.

ففي تلك الأيام سطعت ثقافة رفض الهزيمة في العديد من إبداعات وكتابات المثقفين المصريين في تلك الأيام العصيبة بعد حرب 1967 فيما انطلق صوت كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي ام كلثوم-التي حلت أمس "الأحد" الذكرى الرابعة والأربعين لوفاتها - تردد كلمات تنبض بعزيمة شعب يتطلع لتحرير أرضه.

وجاءت الدورة الأولى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في عام 1969 وسط مراجعات ثقافية جادة لتعزيز ثقافة رفض الهزيمة وتكاملت القوة الناعمة مع القوة الصلبة في المشهد المصري فيما شهدت القاهرة الكثير من الجهود التي بذلها مثقفون للتجديد ودعم مناعة الصمود وإرادة القتال بروح نقدية بناءة ضمن هذه الثقافة الوطنية والقومية في مواجهة هجمة من أعتى الهجمات التي تعرضت لها مصر وأمتها العربية.

وإذ كانت القاهرة أو مدينة الألف مئذنة تحتفل حينئذ بألفيتها الأولى كان معرض القاهرة الدولي للكتاب بشارة أمل وإشارة عزم على التمسك بالهوية المصرية وإلهاماتها الوطنية والقومية مع حراك منفتح على جديد الأفكار في ثقافات العالم كما تحملها الكتب التي استقبلها المعرض في إضافة إيجابية للمشروع الثقافي المصري وقتئذ.

وفي ندوة أقيمت أمس الأول "السبت" بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في الذكرى الـ 1050 لتأسيس القاهرة كان من الطبيعي أن تتفق الآراء على أهمية الحفاظ على التراث المعماري لقاهرة المعز وفي بلد ثري بتراث عمارته.

وإذ أشارت هذه الندوة التي أقيمت بعنوان " 1050 عاما على مدينة القاهرة..التاريخ الاجتماعي وثقافة التغيير" للتحولات على مستوى فنون العمارة في القاهرة لفت الكاتب الروائي حمدي أبو جليل إلى أن هذه المدينة الكونية "تضم كل أنواع العمارة التي شهدتها الإنسانية".

 

وإذ تدعو ذكرى مرور 1050 عاما على تأسيس القاهرة المعنيين والمتخصصين في ثقافة المكان - الزمان وفنون العمارة للإسهام في الكتابة عنها بطروحات وكتب تضارع تلك الكتب التي تتوالى في الغرب وتتحدث من منظور الثقافة الغربية عن عالم العمارة وجدل البشر والحجر قال أستاذ التصميم العمراني والبيئي الدكتور أيمن ونس في ندوة أخرى حول القاهرة بمعرض الكتاب إن هذه المدينة منتج ثقافي بالدرجة الأولى.

وفي الندوة التي أقيمت بعنوان:"1050 عاما على مدينة القاهرة..العمارة والعمران والثقافة" رأي الدكتور أيمن ونس "أن العمران كتاب مفتوح يعبر عن ثقافة الشعب" لافتا إلى أن "الشعوب تبني نموذجها العمراني وفقا لثقافتها وهويتها".

وفيما استعرض أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة الدكتور محمد عفيفي التحولات التي مرت بها القاهرة عبر تاريخها المديد وتمددها العمراني وتنوع أنماط الحياة فيها أعادت مديرة إدارة الحفاظ على التراث بمحافظة القاهرة الدكتورة ريهام عزام للأذهان أن القاهرة تحوي كما من التراث لا مثيل له.

وإذا كان توم ويلكنسون قد تناول في كتابه "قرميد وبشر: عشرة صروح معمارية عظيمة والبشر الذين صنعوها" لعلاقة بين العمارة والإنسان أو بين الحجر والبشر فإن الدكتورة ريهام عزام تحدثت في اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عن الموروث الشعبي الثقافي لسكان القاهرة والذي يعبر عن تفاعلهم مع مدينتهم بعمارتها وهويتها المعمارية.

إنها العمارة التي تجسد تجليات الخيال الإنساني وتعبر عن النفس الإنسانية وتشكل مكونا أساسيا في "ثقافة المكان-الزمان" وغني عن البيان أن معظم الأعمال الإبداعية تصدر عن حنين إلى الزمان أو المكان أو إليهما معا كما ينبغي استعادة مقولة أن "المدن المنفتحة مثل القاهرة هي أمهات للمجتمعات المستنيرة ووجود مثل هذه المدن هام بشكل خاص للأدب".

فللمكان بذكرياته تأثيره الواضح في إبداعات الروائيين كما يتجلى في روايات الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ الذي كان من عشاق القاهرة وخاصة الأحياء التي عاش بها وتوالت في أعماله ومن بينها ثلاثيته الشهيرة وهو صاحب مقولة:"المكان الذي يعشقه الكاتب يكتب عنه".

 

وفي سياق الحفاظ على التراث الثقافي المجيد للقاهرة وبحضور عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة حاكم إمارة الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي افتتح رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي أمس "الأحد" دار الكتب بمنطقة "باب الخلق" بعد ترميمها وتطويرها وهي الدار التي أنشئت منذ نحو 150 عاما فيما تعرضت لأضرار وتلفيات جراء حادث إرهابي في مطلع عام 2014.

وإذ حضرت وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم وقائع افتتاح هذه المؤسسة الثقافية المهمة والتي تعد أول مكتبة وطنية في العالم العربي أكد الدكتور مصطفى مدبولي أن "افتتاح دار الكتب في مكانها التاريخي يعد رسالة مهمة بأن مصر ستظل منارة الثقافة" وتسهم بإبداعات أبنائها من المفكرين والمبدعين في إثراء الأدب والفنون وتشكيل الوعي والوجدان.

ونوه المتحدث باسم مجلس الوزراء المستشار نادر سعد في مداخلة هاتفية متلفزة مساء أمس بتبرع الشيخ الدكتور سلطان القاسمي لترميم دار الكتب مضيفا أن هناك خطة لتطوير كل المناطق الأثرية والتاريخية في القاهرة خلال الفترة المقبلة، ولافتا إلى أن "سور الأزبكية" كأحد المعالم الثقافية القاهرية المرتبطة بالكتاب سيشهد المزيد من التطوير ضمن هذه الخطة.

وواقع الحال أن جهودا مكثفة تبذل في السنوات الأخيرة لتطوير القاهرة وخاصة ما يعرف بالقاهرة الخديوية" التي تعبر بتكويناتها المعمارية المميزة عن التفاعل الثقافى الحضارى النشط بين مصر وأوروبا فيما تمتد هذه المنطقة لتشمل أحياء وشوارع مميزة فى قلب القاهرة بصروحها المعمارية فى عابدين وباب اللوق والفلكى ولاظوغلى وشارع مجلس الأمة والشيخ ريحان ومحمد محمود والقصر العينى والجامعة الأمريكية ووصولا لباب الخلق والعتبة.

والقاهرة كما يلاحظ فنانون تشكيليون في أعمالهم تحمل روح المدينة التي بنيت أصلا على مبدأ الانصهار والتجاور وهي "مدينة رحيمة" فيما يرى كاتب غربي كبير معني بثقافة العمارة مثل توم ويلكينسون أن العمارة أحيانا ساحة لمنازلات التاريخ بل والصراعات الأيديولوجية".

وهكذا فهو ينظر لبرج بابل كاستعراض للقوة ومسجد جينجاريبر في تمبكتو بمالي كصرح للذاكرة وبالازو روشيلا في فلورنسا كصرح للتجارة وعالم البيزنس بينما تعني مصانع هنري فورد في ديترويت العمل ويرمز مركيز فيسنبوري الصحي في لندن للصحة.

وإذا كانت العمارة في منظور هذا المثقف الغربي يمكن أن تعبر عن "إنسانية البشر وأحلامهم" فإن مصر تشهد الكثير من الجهود الخلاقة على هذا الصعيد فيما أوضح رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي أن عملية نقل الجهاز الإداري للدولة للعاصمة الإدارية الجديدة ستؤدي بالتأكيد إلى تخفيف العبء عن القاهرة ومنحها فرصة كبيرة لإظهارها بدورها الحضاري والتاريخي مرة أخرى.

ولعل المفكر الاستراتيجي المصري الراحل جمال حمدان كان أول من سيبارك العاصمة الإدارية الجديدة وهو الذي تحدث عن تورم القاهرة وأطلق صيحته المحذرة:"انقذوا مصر من القاهرة والقاهرة من نفسها".

 

ومن المصادفات السعيدة أن القاهرة تستضيف غدا "الثلاثاء" ولمدة خمسة أيام، أول مهرجان ثقافي لمنظمة التعاون الإسلامي التي تبلغ في شهر سبتمبر المقبل عامها الخمسين لتضارع في العمر معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يختتم في يوم افتتاح هذا المهرجان الثقافي-الفني الذي سيعبر عن ثقافات 57 دولة أعضاء بالمنظمة.

وإذا كان الكاتب والأديب والبرلماني المصري يوسف القعيد قد استعرض التغيرات في مكان معرض القاهرة الدولي للكتاب "الذي يعد من أقدم وأهم معارض الكتب في عالم اليوم" من أرض المعارض القديمة حيث تقع الآن دار الأوبرا والمجلس الأعلى للثقافة إلى أرض المعارض في مدينة نصر وصولا لمكانه الجديد هذا العام في "التجمع الخامس" فإنه يشير لأهمية "العمران في ملامح حياة المدن منذ أن حدده وكتب عنه عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة التي أسست علم الاجتماع للدنيا".

ويتفق يوسف القعيد مع غيره من الكتاب أصحاب الاهتمامات الثقافية على أن انتقال معرض القاهرة الدولي للكتاب لمكانه الجديد هذا العام لم يؤثر سلبا على تدفق الزائرين لحضور هذا العرس الثقافي المصري لافتا إلى أنه في البداية كان متخوفا مثل غيره من إمكانية أن يؤثر هذا الانتقال على نجاح المعرض.

وكشاهد عيان قال الأديب يوسف القعيد:"أعداد الناس التي رأيتها في المعرض كانت تزداد يوما بعد يوم" مؤكدا أن زوار بعض الأيام "قد تجاوزوا المليون وهذا ثابت من أرقام التذاكر المباعة" وتابع قائلا في طرح بجريدة الأهرام:"رأيت العائلات والأسر مثلما كانوا في المعرض القديم بالضبط" معتبرا أن مجرد أن تذهب هذه الأعداد إلى مكان فيه كتب "مسألة شديدة الأهمية".

أما الروائي الليبي الكبير إبراهيم الكوني الذي حضر اليوبيل الذهبي لمعرض فرانكفورت للكتاب في عام 1992 كما حضر اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب يقول إن معرض القاهرة يتفوق على معرض فرانكفورت في "الإقبال الجماهيري".

ومن جانبه يشدد الكاتب الكبير في جريدة الأهرام مرسي عطا الله على حقيقة أن معرض القاهرة الدولي للكتاب "بات يمثل عيدا للكتاب والقراءة" فيما تعيد هذه الحقيقة للأذهان أن معرض الكتاب بات جزءا عزيزا من "الصورة الذهنية للقاهرة في العالم الخارجي".

وبالقدر ذاته تعبر انتقالات معرض القاهرة الدولي للكتاب في المكان القاهري عن أطياف من "ثقافة العمران الرؤيوي" التي يعد أحد الآباء الثقافيين المصريين من روادها وهو علي مبارك الذي يقترن اسمه "كرجل دولة ومثقف كبير" في القرن التاسع عشر بالنهضة العمرانية وبناء القاهرة الحديثة.

وفيما أبدت الكاتبة النمساوية فريدريكه جوسفاير إعجابها بالروح الطيبة للمصريين كما عاينتها في سياق مشاركتها باليوبيل الذهبي للعرس الثقافي المصري ستبقى الوجوه الطيبة التي تتدفق كل عام على معرض القاهرة الدولي للكتاب شاهدة على الانتصار للحياة والعلاقة العضوية بين القاهرة وهذا العيد السنوي للكتاب.

وكما يقول مثقف مصري مثل الكاتب يوسف القعيد في سياق تناوله لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في الساعات الأخيرة ليوبيله الذهبي فإن الثقافة ليست قراءة الروايات "بقدر ما هي تعبير عن حب الحياة وإعادة بناء حياة المصريين وأن نقول جميعا لأعداء الحياة: لا وألف لا".

وبطرافة تتناول أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتورة نيفين مسعد انتقالات معرض القاهرة الدولي للكتاب فتقول بالعامية المصرية:"مازلت وراه وراه دايما واتبع خطاه" فيما تستعير عنوان أغنية للمطرب الراحل فريد الأطرش:"دايما معاك" !.

نعم إنه معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي تحول عبر نصف قرن لقصة قاهرية تعبر ببساطة وبلاغة معا عن ثقافة المصريين المنتصرة للحياة وأيقونة حب صنعها التاريخ الثقافي وحوارات 50 عاما بين البشر والزمان والمكان.

يمين الصفحة
شمال الصفحة