إنسانية الإسلام وقت الأزمات.. مسلمو إسبانيا وأمريكا اللاتينية نموذجًا

أصدرت وحدة الرصد الإسبانية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف تقريرا بعنوان "إنسانية الإسلام وقت الأزمات.. مسلمو إسبانيا وأمريكا اللاتينية نموذجًا"، مشيرًا إلى أن للإنسانيّة دائمًا شأن آخر، يُقصيها عن العصبيات والعرقيات والقوميات، وعن كل نزعة إلى التّمييز أو الدعوة إلى الاختلاف أو العنصرية، إنها العروة الوثقى التي لا انفصام لها بين بني البشر على اختلاف أديانهم وألسنتهم وألوانهم. ولله ــ تعالى ــ حِكمة في ذلك الرباط الذي جعله جامعًا للبشر، فيتراحمون رغم التباين، ويتضامنون في ظل هويات شتَّى قد لا يكون ثّمة رابط بينها على الإطلاق!

وقال المرصد: لا شكّ أن الإسلام قد عزّز الجانب الإنساني بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى. فلا يمكن أن تُفهم رسالة الإسلام دون اعتبار هذه الجوانب وفهم الهدف الإنساني للرسالة الخاتمة. وفي ظل انتشار الوباء المستجد (كوفيد 19) تغلب الإنسانيّة على المجتمعات، وتبرّز في صور كثيرة منها: التكاتف والتضامن ومساعدة المحتاجين والمشاركة في الأنشطة الخيرية بأنواعها.

وبين أنه في إسبانيا وأمريكا اللاتينية هبَّ المسلمون للنّجدة والتضامن وتقديم المساعدة لمجتمعاتهم في جوانب كثيرة، أكدت نازع الإنسانيّة المتأصّل فيهم، وحرصهم على ترجمة انتمائهم واندماجهم في تلك المجتمعات إلى إسهام فِعليٍّ في مواجهة الوباء، وتخفيف آثاره على المواطنين، حيث دشّن المسلمون مبادرات إنسانيّة، نذكر منها -على سبيل المثال- ما نشرته وكالة أنباء "نويس دياريو" الإسبانّية في 25 مارس 2020 عن ما يقوم به المركز الإسلامي بمدينة برشلونة، حيث يعمل المركز على إنتاج 700 كمامة طبيّة يوميًّا، وهي من الاحتياجات التي لا غنى عنها للوقاية، ويتمُّ توزيعها على الأحياء السكنية والمستشفيات؛ وذلك في إطار المشاركة الفاعلة لمواجهة وباء كورونا، نظرًا لنقص مواد الحماية والأجهزة والأدوات الطبيّة الحادّ الذي تعاني منه إسبانيا وجميع دول العالم بسبب ‏تفشّي الفيروس بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة؛ وهو ما يراه المرصد موقفًا إنسانيًّا فاضلًا؛ إذ يوفّر أداة بالغة الأهمية من أدوات الحماية، كما أنه يؤكد انشغال المسلمين بتقديم مساعدات ملموسة مرتبطة بالأزمة ارتباطًا حقيقيًّا، بدلًا من ترديد شعارات أو الإيهام بالمساعدة على وسائل التواصل والاكتفاء بذلك.

وأشار إلى أنه مع تكدّس المستشفيات بالمصابين وعدم استيعابها للحالات اليوميّة التي تتردّد عليها، أبدى المركز الإسلامي في برشلونة استعداده الكامل لتخصيص مقر المركز وتحويله إلى مستشفى لاستقبال المصابين، وهو ما تتّجه إليه كثير من المؤسسات والهيئات في الوقت الحالي؛ حيث توفّر أماكن لتقديم الرعاية للمرضى.

وقد قال رئيس المركز: إن هذا المكان يتَّسع لاستضافة 2000 حالة، وهو عام لمن يحتاجه. وأضاف: "عرضنا على مجلس المدينة والجمعية العامة - إذا أرادوا- تحويله إلى مستشفى أو مكان استضافة أو تقديم أيَّة خدمة أخرى لمواجهة الأزمة". وهذا يلفتنا إلى أن مجالات المساعدة كثيرة يسهم فيها كل مسلم بما يستطيع، وتقدم كل مؤسسة أو جمعية ما يتوفر لها من إمكانات لمواجهة الوباء على المستوى الوطني والاجتماعي والإنساني.

وتأتي حملات التبرع على رأس الأنشطة الخيرية التي تؤكّد حرص المسلمين بوصفهم مواطنين على تقديم يد العون إلى مجتمعاتهم لمواجهة مخاطر الفيروس المستجد؛ فقد أطلقت الجمعية الإسلامية في بلدية "نابالمورال دي لا ماتا"، التابعة لإقليم "اكستريمادورا" الإسباني ‏حملة لجمع التبرعات لمواجهة فيروس كورونا.

وحسب موقع "أوي نابالمورال" الإخباري، فإن ‏الحملة تهدف إلى جمع الأموال لشراء عدد من المستلزمات الطبيّة لمواجهة فيروس كورونا. ‏وأضاف الموقع أنه من المقرّر شراء عدد من الكمامات والقفازات والملابس الوقائيّة وتسليمها ‏للأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة بالفيروس بسبب طبيعة عملهم. ومن جانبه أعرب "أنطونيو راموس"، مدير مؤسسة "كاريتاس" الدوليّة العاملة في مجال ‏التنمية والخدمة الاجتماعية والمساعدات الإنسانيّة، عن امتنانه للمشاركين في الحملة.

كما يتأكّد أن مفهوم التضامن الاجتماعي يتسّع في وقت الأزمة عن غيره من الأوقات؛ إذ يعدّ المجتمع أية مساعدة فعلًا إنسانيًّا يستحق الإشادة، ويثمنه وإن لم يكن كبيرًا، وهذا شعور إنساني يغمر الإنسان في أوقات الشدائد؛ إذ يستشعر قيمة النعم التي وهبها الله إياه، ولا يستصغر منها شيئًا مهما كان يسيرًا؛ وربما كان هذا جانبًا إيجابيًّا للأزمات الإنسانية على شدّتها وقسوتها.

إطعام الطعام صورة أخرى رائعة من صور التضامن، وتطبيق عملي لتعاليم الإسلام، الذي أمر بإطعام الطعام - حبًّا وكرامةً- للمسلم وغير المسلم؛ وهو قيمة إنسانيّة تتجلّى فيها معاني الرحمة والرفق بالخلق؛ فمن مدينة "ألش" التابعة لمقاطعة "بلنسية" الإسبانية وبعنوان "الجالية المسلمة تُساعد الإسبان في زمن الكورونا" سلّطت صحيفة "‏الدياريو" الإسبانية الضوء على هذه المدينة التي تُعدّ مثالًا يُحتذى في التضامن بين أطياف المجتمع من خلال ما قامت به الجالية المسلمة من إعداد المواد الغذائية الضرورية، وتوزيعها بالمجان على مئات الأشخاص الذين فقدوا أعمالهم بسبب هذا الفيروس.

وذكرت ‏الصحيفة أن الجالية المسلمة بالمدينة تبرعت خلال الأسبوع الأول من شهر أبريل بشحنة كبيرة من المواد الغذائية ‏الأوَّليَّة إلى المكان الذي خصّصته بلدية المدينة لاستقبال ورعاية الأشخاص والمشردين بسبب ‏الفيروس التاجي. فأية قيمة إنسانيّة أعلى وأسمى من إغاثة الناس من افتراس الجوع لهم! إنها دعوة الإسلام ومنهجه، دين الإنسانيّة بامتياز.

واستكمالًا لهذا التضامن، ذكر "منير الشافعي" رئيس الجمعية الإسلامية بالمدينة أنه تواصل ‏مع الهيئات التّنفيذية وطلب منهم السماح لهم بمدّ يد العون بأية طريقة ممكنة، بعد ما تمكنت ‏الجمعية من جمع التبرعات اللازمة من أفراد الجالية المسلمة الذين أبْدوا ترحيبهم ‏بتلك المبادرة الخيرية. وأضاف الشافعي أن تلك المبادرات ضرورية للغاية في الوقت الراهن بسبب الأزمة الاقتصادية التي فرضها وباء كورونا.

أعلن عن إبرام الجمعية مجموعة من الاتفاقيات مع بعض محال الجزارة بالمدينة لتوفير المواد الغذائية الضرورية بالمجان كاللحوم والزيت والسكر للأسر الفقيرة المسلمة وغير المسلمة التي تحتاج إلى تلك المنتجات في الوقت الحاضر.

ولم تكن تلك هي المبادرة الوحيدة؛ إذ أعلن أحد المطاعم بحي "كاروس" والذي يملكه تونسي مسلم وزوجته الإسبانيّة الجنسية، عن ‏تقديم الأطعمة بالمجان لأيِّ شخص يحتاج إليها، بغض النظر عن معتقده وعِرْقه، مع العلم أن هذا الموقف ليس بغريب على هذين الزوجين اللذين أطلقا تلك المبادرة منذ سنوات طويلة، وفُتحت أبواب المطعم لجميع الفقراء والمحتاجين الذين يصطفون يوميًّا بالمئات أمام هذا المطعم لاستلام وجباتهم الغذائية دون مقابل. وبذلك أصبح المكان لا غنى عنه لجميع سكان الحي الذين توقفوا عن العمل بسبب الأزمة الحالية.

من جانبه أشار مالك المطعم إلى أن الأعداد في تصاعد مستمر؛ وبالرغم من ذلك يُسمح لكل فرد بأخذ ما يريد، قائلًا: "نحن نثق فيهم وفي أمانتهم"؛ فليست الفضيلة في الإطعام إنْ كان على ضجر، بل في تقديمه عن طيب خاطر؛ امتثالًا لقول الجليل في كتابه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى? حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا.

وفي أمريكا اللاتينية رصد أمثلة عديدة ونماذج مشرفة، ومن بوليفيا على سبيل المثال، نجد أنشطة مشابهة تؤكد اندماج المسلمين في المجتمع اللاتيني واستشعار المسئولية تجاهه؛ حيث تسعى الجمعيات الإسلامية إلى بذل المزيد من الجهود لمساعدة المجتمع خاصّة في وقت الأزمة، باعتبارهم جزءً لا يتجزّأ من نسيجه. وفي هذا السياق أعلنت الجمعية الإسلامية في بوليفيا عن تبرعها بخمسة آلاف كمامة لأحد المكاتب الحكومية المحلية في مدينة "لا باثْ"، وتوزيع هذه الكمامات على الأشخاص الذين يقومون بأعمال وقائيّة، لمنع انتشار الفيروس في البلاد، في مختلف المراكز الصحيّة.

بينما برّزت الجهود الخيرية للمسلمين في الأرجنتين في تقديم الأطعمة؛ فمع نقص المواد الغذائية الذي تعاني منه الأُسر والأطقم الطبيّة بسبب الحظر الذي فُرض للحدّ من انتشار الوباء بين المواطنين، قرَّرت سلسلة أحد المطاعم العربية تقديم الطعام المجاني للفرق الطبيّة في المستشفيات ‏العامة في مدينة "بوينوس آيرس" تقديرًا لعملهم في مكافحة فيروس كورونا المستجد. وأكدت ‏إدارة المطعم أنه يمكن لأعضاء الأطقم الطبيّة بالمستشفيات العامة في المدينة استلام ‏الطعام مجانًا من فروع المطعم.‏

إن هذه المبادرات الطيبة التي تحمل في طياتها أسمى معاني التضامن والتكافل والإنسانيّة التي يحثّ عليها ديننا الحنيف لجديرة بالإشادة والثناء. على أن من أعظم أهدافها تخفيف الأعباء عن كاهل الفئات الأكثر تضررًا في تلك المجتمعات بسبب الوباء المستجد، وهي معانٍ إنسانيّة نبيلة. وإن مرصد الأزهر ليأمل أن يكون سعي الجاليات المسلمة في إسبانيا ودول أمريكا اللاتينية مثمرًا بَنَّاءً، وأن تقدم هذه الجاليات المزيد لمجتمعاتها إنصافًا للإنسانيّة المصابة، وتخفيفًا لآلامها المبرحة.