جرمين عامر تكتب: الاحتياط واجب.. أمن وأوعى تتطمن لهلوسة الخوارزميات

جرمين عامر - – عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

جرمين عامر - – عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

الإنسان .. هو المسئول الأول عن هلوسة الآلة

في ستينات القرن الماضي، نجح فؤاد المهندس في أن يعكس بذكاء روح الموظف المصري البسيط في فيلم أخطر رجل في العالم.

موظف تأمين عادي في مهمة كبيرة : تأمين جوهرة يملكها مهراجا هندي يزور القاهرة.

لكن هذا الموظف قرر أن يتعامل مع المهمة بعقلية مختلفة.   لم يعتمد على المترجمين للغة الهندية، بل قرر أن يتعلمها بنفسه حتى يستطيع أن يقنع المهراجا بتوقيع بوليصة التأمين.

قصة الفيلم تبدو كوميدية في ظاهرها، لكنها في جوهرها اختصار لعبقرية الإنسان حين يدرك أن التواصل هو أول درجات الأمان.

اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يتكرر المشهد.

لم نعد نتعلم لغة المهراجا، بل أصبح لزاما علينا تعلم لغة الخوارزميات. لكي نؤمن على البيانات والمعلومات .. لأنها ببساطة أصبحت جواهر العصر الرقمي الثمينة.

فالإنسان الذي كان يتعلم لغة الآخر ليحمي ماله وثرواته من المجوهرات والذهب، صار يتعلم لغة الذكاء الاصطناعي ليحمي نفسه من أخطاء الآلة التي صنعها بيديه.

صناعة التأمين، التي ابتكرت لتحصين وحماية المال والممتلكات، أصبحت اليوم مرآة للمجتمع الرقمي، تكشف لنا هشاشة الانسان أمام الأنظمة الذكية التي اخترعها.

وربما لهذا السبب كانت شركة Munich Re  الألمانية أول من أصدر في عام 2018 بوليصة تأمين ضد أضرار الذكاء الاصطناعي تحت اسم aiSure، لتتبعها شركات مثل   Relm Insurance و AIShelter و Chaucer Group، حتى وصلت الاستثمارات في هذا المجال إلى 5.6 مليار دولار عام 2024، وفقًا لتقرير The Journal of Cll الذي صدر عام 2025

لكن الرقم في حد ذاته ليس هو المفاجأة !!

إنما المدهش !! أن الإنسان هو من أدخل نفسه تطوعا إلى عصر الخطأ الذكي — خطأ لا يرتكبه بشر، بل الخوارزميات التي قررت أن تتذاكى أكثر من اللازم وتحلل الأرقام والبيانات.

 

وهنا يأتي سؤال مهم ؟!!

من المسئول إذا أخطأت الآلة؟

هل هو المبرمج الذي كتب الكود؟

أم الشركة التي شغلت النظام؟

أم الذكاء الاصطناعي نفسه عندما يبدأ في التطور ذاتيا دون إذن؟

 

التأمين التقليدي كان يقوم على قياس الخطأ البشري ومن ثم وضع أنماط له يمكن من خلالها تحديد المخاطر ومعرفة إمكانية التحصين.  أما في عالم الخوارزميات، فالخطأ أصبح فرديا وبعيد عن النمطية.  أخطاء لا يمكن التنبؤ بها وقد لا تتكرر، لأن الآلة تتعلم ذاتيا وبشكل مستمر.

 

ومع ذلك، تحاول شركات التأمين أن تجاري الواقع الجديد.  فأضافت بنودا جديدة تغطي الأضرار الناتجة عن تحيز النماذج الذكية، أو الأداء غير المتوقع، أو تسريب البيانات، أو حتى الإضرار بالسمعة الرقمية.  بل ظهرت بوالص جديدة تؤمن ضد قرارات الذكاء الاصطناعي نفسه، وكأننا بنامن ضد أفكارنا المبرمجة.

 

لكن الحقيقة الثابتة .. أن الخوارزميات بريئة حتى تثبت إدانة الإنسان.  فهي لا تخطئ لأنها تتمتع بذكاء أعلى من قدرات البشر.  خطأها الوحيد قد يحدث إذا ما غفل عن مراقبتها الانسان وتركها تتعلم دون توجيه.

 

والأمثلة العالمية كثيرة !! فهناك شركة أمريكية خسرت ملايين الدولارات بعد ضغطة واحدة على بريد تصيد إلكتروني من موظف، رفضت شركة التأمين دفع مبلغ التعويض لأن هذا الخطأ بشري وليس هجومًا إلكتروني.

 

وفي أوروبا، رفضت شركة تأمين تعويض ضحايا هجوم WannaCry الشهير  لأنه صنف علي انه حرب رقمية وليس هجوم!

 

حتى شركات العلاقات العامة بدأت تدرج التأمين على سمعتها الرقمية ضد التسريبات والمحتوى المفبرك ضمن عقودها.

 

هكذا أصبح التأمين مرآة جديدة للأخلاق، لا للأخطار فقط.

فالخطر الحقيقي ليس في الذكاء الاصطناعي، بل في غياب وعي الإنسان الذي صنعه.

لأن الخطا القادم لن يكون في ضغط علي "زر"، بل في آلة اخترعناها ورعيناها دون أن ندرك أبعاد تفكيرها ونحدد حدود تعلمها الذاتي.

 

وفي النهاية، يظل التأمين الحقيقي ليس على الأجهزة أو الأنظمة فقط، بل على الوعي الإنساني المطالب بأن يظل يقظا، ويدرك أن الذكاء الاصطناعي مهما بلغ من تطور، لن يتحمل مسئولية أخطائه.

 

يمين الصفحة
شمال الصفحة