الإفتاء تكشف حكم استغاثة الحي بالميت

وجه أحد المتابعينةلدار الإفتاء لدار الإفتاء وجاء غيه  بعض الناس أن الاستغاثة بمن يُرجى صلاحه لا تكون إلا في حياته؛ فلا يجوز الاستغاثة بمن مات؛ فنرجو منكم بيان الرأي السديد في هذه المسألة؟ 

وقالت الإفتاء استغاثة الحي بالميت ليست طلبًا من عدم، بل من حيٍّ حياةً برزخية لها من القدرة والتصرف ما يشاء الله تعالى، والله تعالى لا حدَّ لقدرته؛ يُقْدِر مَن شاء على ما يشاء؛ فلا يقال: الاستغاثة بالميت فيها طلب ما لا يقدر عليه إلا الله من المخلوق، فتكون شركًا؛ لأنا نقول: يلزم على ذلك أن كل طلبٍ مِن المخلوق فهو شركٌ، وهذا مخالف لِمَا عُلِم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن المخلوق -حيًّا كان أم ميتًا، حاضرًا أم غائبًا- لا يقدر على فعل شيء أصلًا إلا بإقدار الله جل وعلا؛ سواء أكان ذلك الفعل مقدورًا عليه في الأحوال العادية أم من خوارق العادات، إنما الشرك في إثبات قدرة ذاتية للمخلوق مستقلة عن قدرة الخالق سبحانه؛ حيًّا كان المخلوق أم ميتًا.
وحينئذٍ فمدار صحة طلب الغوث ممَّن يُستَغاث به -بعد كون ذلك على جهة التسبب لا الخلق والإيجاد الذاتيين- إنما هي على غلبة الظن بإقدار الله تعالى لهذا المستغاث به على الإغاثة، فإن كان الغوث في قدرة المخلوق عادة فلا إشكال حينئذ في صحة طلبه منه، وإن كان من خوارق العادات وحَسُنَ ظنُّ المستغيث في إقدار الله تعالى للمستغاث به على الغوث، وهذا من الممكنات ولا محال فيه عقلًا ولا شرعًا، فلا علاقة حينئذ للاستغاثة بالميت بالشرك من قريب ولا بعيد.
والحي إنما يستغيث بمن يُرجى حصول الكرامات له بعد موته؛ وقد تواردت الدلائل الصحيحة على ثبوت الكرامات بعد الممات، ومنها ما يلي:
ما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن كفار قريش لمّا علموا بقتل عاصم بن ثابت رضي الله عنه بعثوا مَن يأتيهم بشيء من جسده، فبعث الله لعاصم مثل الظُّلّة مِن الدَّبْر -أي النحل والزنابير-، فحَمَتْه من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئًا"، وهذا صريح في كرامة الله له بعد موته".
وروى الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه بسند جيد -كما قال السيوطي في "الخصائص الكبرى"-، وابن أبي الدنيا في كتاب "مَن عاش بعد الموت"، والبيهقي في "دلائل النبوة" واللفظ له، من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ الْمَوْتِ»، وقد علقه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/ 456، ط. دائرة المعارف العثمانية بالهند) على جهة الجزم به.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت"، والبيهقي في "دلائل النبوة": أن زيد بن خارجة الأنصاري رضي الله عنه تُوُفِّيَ زمنَ عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم تكلم بعدما مات، فقال: "أحمد أحمد في الكتاب الأول صدق صدق، أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القوي في أمر الله في الكتاب الأول صدق صدق، عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول صدق صدق، عثمان بن عفان على منهاجهم..".
قال الحافظ البيهقي: "والرواية في ذلك صحيحة ثابتة، وقد رُوِيَ في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة".
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت" والبيهقي في "دلائل النبوة" -واللفظ له- عن ربعي بن حراش قال: أُتِيتُ فقيل لي إن إخاك قد مات، فجئت فوجدت أخي مُسَجًّى عليه ثوبٌ، فأنا عند رأسه أستغفر له وأترحم عليه إذ كَشَفَ الثوبَ عن وجهه فقال: السلام عليك، فقلت: وعليك، فقلنا: سبحان الله! أبعد الموت! قال: بعد الموت؛ إني قدمت على الله عز وجل بعدكم فتُلُقِّيتُ برَوْحٍ وريحان، وربٍّ غير غضبان، وكساني ثيابًا خضرًا من سندس وإستبرق، ووجدت الأمر أيسر مما تظنون، ولا تتكلوا؛ إني استأذنت ربي عز وجل أن أخبركم وأبشركم، فاحملوني إلى رسول الله، فقد عهد إليَّ أن لا أبرح حتى ألقاه"..
قال الحافظ البيهقي: "هذا إسناد صحيح؛ لا يشك حَدِيثيٌّ في صحته".
وقد نص كثير من العلماء أن الميت ينفع الحي، وتعود عليه بركته؛ قال العلّامة ابن القيم الحنبلي في كتاب "الروح" (ص: 21): [وقد دل التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدين عليه وذكر له شواهده وأدلته، وأبلغُ من هذا أنه يخبر بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحد من العالمين، وأبلغُ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا فيكون كما أخبر، وربما أخبره عن أمور يقطع الحي أنه لم يكن يعرفها غيرُه] اهـ. وممَّا ذُكر يُعلَم الجواب عن السؤال.

يمين الصفحة
شمال الصفحة