وسط ظرف عالمي معقد ودقيق

قمة الرياض .. الصراع يشتعل علي استقطاب العرب بين التنين الأصفر  والمدار الأمريكي

عبدالناصر قطب

عبدالناصر قطب

علي وقع  أوضاع دولية دقيقة  ، جاء انعقاد أول قمة عربية صينية في العاصمة السعودية الرياض ، بمثابة تدشين   لمرحلة جديدة في مسيرة   الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية والتنين الأصفر ، وإيذانا ببدء فصل  جديد من تاريخ العلاقات بين الجانبين أكثر متانة وقوة، تلك العلاقات التي مرت بالعديد من المراحل  ، كان  أبرزها كان تأسيس منتدى التعاون العربي- الصيني عام 2004 بالقاهرة، والذى وضع إطارا  للحوار والتعاون الجماعي العربي الصيني على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

  القمة العربية الصينية للتعاون والتنمية ،  انعقدت بمشاركة الرئيس عبدالفتاح السيسي وقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والدول العربية، بالتزامن مع الزيارة الرسمية التي يقوم بها الرئيس الصيني شي جين بينج للمملكة بدعوةٍ رسمية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان ، كما استضافت الرياض  أعمال القمة الخليجية الـ 43  برئاسة  سلطنة عمان  ، والتي تعد خامس قمة اعتيادية تستضيفها السعودية على التوالي، وهذه سابقة هي الأولى في تاريخ مجلس التعاون منذ تأسيسه عام 1981، التي تستضيف فيها إحدى الدول 5 قمم متتالية. 

  انعقاد القمة العربية الصينية جاء  وسط ظرف عالمي معقد ودقيق، يحتاج العالم أن يكون أكثر انفتاحا في علاقاته مع تجنب الوقوع في براثن اختلاف المصالح الدولية  ، فيما كان للحضور المصري دوره المؤثر في فعاليات القمة ، وتوجيه مسارها ونتائجها نحو خدمة المصالح العربية .

 طموحات مشتركة

 على مدى عقود لم تتوقف التفاعلات والتحولات في السياسة والاقتصاد خاصة وانه مع نهاية الحرب الباردة، كانت الصين تصعد كقوة اقتصادية صناعية وتجارية، توسع من التحرك نحو شراكات تفتح لها الأسواق، في وقت بدا ان تأثيرا الولايات المتحدة الاقتصادي يتراجع، لأسباب تخص الأهداف الأمريكية، وأيضا مقابل صعود قوى اقتصادية بشكل كبير يمثل افقا جديدا للمنافسة. وقد كشفت التحولات الأخيرة عن أهمية بناء نظام دولي أكثر عدالة، واقل تأثرا بالصراعات والأزمات بالطبع فإن الدول العربية والافريقية ترى انها يمكن ان تحقق طموحاتها ضمن شراكات أوسع، وتغيير لتحالفات سابقة لم تعد كافية لتلبية هذه الطموحات، وهو أمر يتضح من خلال خرائط التعاون والاتفاقات في المجالات الاقتصادية والصناعية.

من هنا فإن  القمة العربية الصينية التي  عقدت  في المملكة العربية السعودية، بحضور أكثر من 30 من رؤساء الدول وزعماء المنظمات الدولية، تمثل انعكاسا لشكل وحجم التحول في العلاقات نحو شراكات عربية صينية، وكل من مصر والسعودية ودول الخليج والدول العربية لديها طموحات في التنمية وتوطين التكنولوجيا، وبالتالي فهي تدعم آلية التعاون العربي الصيني، وتدفع نحو تبنى آليات لضمان استدامة هذه العلاقات، في إطار تعظيم المنفعة والمصالح المشتركة، وأيضا مواجهة التحديات التنموية وتعزيز التعاون بشكل عام بين دول الجنوب.

انعقاد القمة العربية الصينية يعد حدثاً مهما، يعكس حجم التطور في العلاقات العربية الصينية، وأيضا الشراكة في ضرورة مواجهة  الأوضاع الدولية الراهنة، والأزمات التي تشير الى اختلالات في النظام الاقتصادي العالمي،  سواء بعد كورونا، او بسبب الحرب في أوكرانيا، وضرورة تغيير الواقع الراهن بناء على ما تمتلكه كل دولة من إمكانات وطموحات، حيث ترى الصين ان لديها فرصة لتوسيع شراكاتها وأسواق لمنتجاتها، بينما ترى الدول العربية أن هناك أهمية لبناء علاقاتها الاقتصادية بناء على حجم القوة وليس فقط على قواعد قديمة تثبت انها لا تلبى طموحاتها الاقتصادية والتجارية.

بالتأكيد فإن الصين  لديها طموحات للتعاون وتوسيع شراكاتها وفتح أسواق والتوصل الى اتفاقات طويلة المدى للطاقة والغاز، وتلعب الشركات الصينية دوراً مهماً في العديد من دول الشرق الأوسط وافريقيا، وهناك استثمارات صينية مباشرة، وعقود البنية التحتية مع الشركات الصينية، لإنشاء الموانئ ومناطق التجارة الحرة ، بينما الدول العربية تطمح من هذا التعاون مع الصين الى توسيع التعاون في توطين التكنولوجيا الرقمية والطاقة المتجددة والسياحة والطيران. خاصة وان الصين تدخل بالجيل الخامس من تكنولوجيا الاتصالات، وبالتالي فإن التعاون العربي الصيني يمكن ان يكون مجالا لتحقيق مصالح مشتركة، للصين والدول العربية. بجانب صناعات النقل، وصناعات السيارات الكهربائية.

تحالفات جديدة

 النظر بعمق لمسار وموعد انعقاد القمة العربية الصينية ، يكشف أن طرفيها يمثلان مراكز  حيوية في  الاقتصاد العالمي ، يمكن لها المساهمة  في التقليل من الاستقطابات من قبل الاضداد (الولايات المتحدة والصين)،  كما أن الصين اليوم هي أكبر شريك اقتصادي لدول الخليج العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ، وعلي الرغم من الإجماع علي أنه من غير المتصور    استراتيجيا افتراض حلول الصين مكانة الولايات المتحدة على الصعيدين الأمني والدفاعي، في المنطقة – علي الأقل في الوقت الحالي – إلا أن القمة تؤكد أن الشرق الأوسط يؤسس لعلاقات متوازنة ولن تقبل باستمرار اتخاذ الجغرافيا السياسية  للمنطقة  ساحة تطاحن بين المتصارعين     الكبار على حساب المنطقة، خاصة وأن المنطقة  العربية  يمكن لها أن تتحول لأهم  جغرافيا سياسية واقتصادية داعمة لإعادة الاستقرار في عموم  الشرق الأوسط   وأفريقيا وعموم حوض المتوسط .

  القمة العربية الصينية تمثل دفعة جديدة لاتخاذ خطوات أكثر جدية نحو بناء التجمع العربي الصيني ذي المصير المشترك، وتوقيع العديد من الاتفاقيات في مختلف المجالات لتعميق تلك العلاقات البينية.

كما تمثل القمتان العربية الصينية والخليجية الصينية، نقطة محورية تعيد ترتيب التحالفات في الإقليم والعالم وبناء هيكلة جديدة للاقتصاد والأمن في العالم .

وقد شددت القمتان على عدة نقاط من أهمها ضرورة صون السلم والأمن الدوليين وتطوير علاقات التعاون مع الصين في كافة المجالات، وأهمية الحفاظ على استقرار أسواق الطاقة العالمية والإمدادات الغذائية من القمح والحبوب لشعوب العالم ،  

 ويعد  انعقاد قمة الرياض العربية- الصينية للتعاون والتنمية  ثقلًا كبيرًا للعلاقات، كما يعكس الإرادة السياسية من الجانبين العربي والصيني لكي تكون هذه العلاقات على هذا المستوى القيادي،  و حدثا تاريخيا بكل المقاييس ويعكس ثقل المنطقة العربية في النظام الاقتصادي الدولي، كما يُمثل إدراكًا مشتركًا من الصين والدول العربية لما تقتضيه اللحظة الحالية، التي تشهد أزمات عالمية متوالية وممتدة الأثر، ما يحتم مد جسور التواصل والعمل المشترك لإيجاد مبادرات فعالة للتعامل مع واقع الأزمات وتخفيف آثارها على الشعوب، فضلًا عن توظيف الإمكانيات المتاحة لدى الطرفين، العربي والصيني، لتحقيق الازدهار المنشود.

علاقات تاريخية وتعاون اقتصادي

  انعقاد القمة جاء أيضا  في إطار منتدى التعاون العربي الصيني، حيث وافق الجانبان خلال الدورة التاسعة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي في 2020 على عقد قمة عربية صينية من أجل الدفع بالشراكة الاستراتيجية العربية الصينية إلى آفاق أرحب، وبما يخدم المصلحة المشتركة للجانبين .

وتعود  العلاقات بين الصين والمنطقة العربية،   إلى تاريخ بعيد جدًا، وكان  طريق الحرير  هو المسار الذي انتقلت من خلاله الحضارة من الشرق إلى الغرب عبر العالم الإسلامي والصين في العصور الوسطى، والكثير من المنجزات العلمية والتكنولوجية والمعرفية التي صنعت النهضة الأوروبية منذ القرن الخامس عشر لها أصول تعود إلى التبادل الذي جرى على هذا الطريق، والصين تتحدث اليوم عن إحياء جديد لهذا المسار الحضاري الذي أسهم في تغيير العالم من قبل عبر مبادرة "الحزام والطريق".

كذلك فإن  العلاقات الاقتصادية بين الجانبين في تطور مستمر،  حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية   من نحو 36 مليار دولار وقت إنشاء المنتدى إلى حوالي 330 مليار دولار عام 2021، وهو رقم قابل للزيادة في ضوء الإرادة السياسية المشتركة لدى الجانبين التي تنعكس في انعقاد هذه القمة.

و في عام 2020 بلغ حجم التجارة بين الصين والدول العربية نحو 240 مليار دولار والواردات العربية من الصين بلغت 123 مليار دولار بزيادة 2.1% على أساس سنوي ،  كما أنه  منذ منتدى التعاون العربي الصيني عام 2004 والعمل المشترك بين الجانبين يسير بخطى ثابتة وربما بطيئة بعض الشيء وسوف يتسارع العمل الصيني العربي المشترك بعد هذه القمة ، فيما يلفت خبراء إلي أن  الصين   تبحث مع الدول العربية عن زيادة نسبة نموها الذى انخفض من مستوى 10% إلى 5% وهناك تباطؤ كبير فى الاقتصاد الصيني ،  لأسباب عدة وهى تبحث عن شركاء فاعلين لزيادة حجم النمو وتوسيع حجم استثماراتها فى الخارج .

كذلك تبحث  الصين  عن فرص استراتيجية لإدامة الصناعات لديها ونشرها في عدد من الدول العربية كمحور قناة السويس في مصر، وهذا الأمر كان محور نقاش بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والصينى شى جين بينج، وأبدي  الرئيس الصيني   استعداده لزيادة حجم التعاون والتبادل والاستثمار مع مصر بصفتها دولة رائدة وركيزة أساسية في المنطقة وكذلك مع دول الخليج التى ترى الصين فيها فرصًا كبيرة ومتعددة ومختلفة.

كل هذه التطورات في العلاقات العربية الصينية، هي نتاج لتفاعلات متراكمة كميا، على مدى عقود، مع وجود إمكانية لتلاقى المصالح التنموية العربية، مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تعالج «فجوة البنية التحتية» وتقدم وعودا بتسريع النمو الاقتصادي عبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأفريقيا ووسط وشرق أوروبا، وبالتالي انضمت لها اغلب الدول العربية. وتأتى القمة العربية الصينية لتمثل خطوة مهمة تجاه نظام أكثر تعاونا وشراكة لضمان المصالح المشتركة العربية والصينية.

حضور مصر القوي

تنظر مصر   للتعاون العربى الصيني على أنه يعزز الجهود الدولية الرامية إلى دفع عملية السلام العادل بالشرق الاوسط وفق مقررات الأمم المتحدة، ودعم التبادل التجاري وتعزيز التعاون بين الطرفين في إطار منظمة التجارة العالمية، وتبادل الخبرات في الإدارة الخاصة بإنشاء وإدارة المناطق الحرة والاقتصادية خاصة ان مصر لديها محور المنطقة الخاصة بقناة السويس في اطار التعاون والتكامل مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، و التعاون في مجال الطاقة و العلوم والتكنولوجيا والزارعة والري، في ظل الأزمة العالمية الحالية .

وفي لقائه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي ،  على هامش القمة العربية الصينية  ، ثمن  الرئيس الصيني شى جي بينج     الدور المصري الرائد في صون السلم والأمن والاستقرار في المنطقة، بينما تحدث الرئيس السيسي عن تكامل المبادرة الصينية «الحزام والطريق» مع جهود مصر التنموية، خاصة فيما يتعلق بتنمية محور قناة السويس، وتطوير البنية الأساسية بالطرق والموانئ البحرية والطاقة، بجانب تشجيع الشركات مع الصين والاستثمارات في مجالات توطين التصنيع المشترك ونقل التكنولوجيا الصينية».

وكانت رئاسة الجمهورية أكدت أن مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي   فى القمة العربية الصينية الأولى  تأتي في إطار حرص مصر على تدعيم وتطوير أواصر العلاقات التاريخية المتميزة بين الدول العربية والصين، فضلاً عن المساهمة بفعالية في جهود تعزيز آليات العمل المشترك لتحقيق المصالح المشتركة، حيث ستهدف القمة إلى البناء على الحوار السياسي الممتد بين الجانبين، إلى جانب التشاور والتنسيق بشأن سبل تعظيم آفاق التعاون المتبادل على الصعيدين الاقتصادي والتنموي، إلى جانب بحث مساعي الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.

الدور المصري كان حاضرا وبقوة  في لقاءات الرئيس السيسي بالعاصمة الرياض مع قادة الدول المشاركة ، وبينها السعودية وتونس والسودان ، كما كان حاضرا في التصريحات الرسمية والتقارير الإعلامية التي استبقت انطلاق أعمال قمة الرياض ، حيث أكد   الرئيس الصينى شي جين بينج، على دور مصر المهم فى ترسيخ العلاقات العربية الصينية في هذه المرحلة ، والذى يأتي امتدادا للدور البارز الذى اضطلعت به القاهرة في تنشئة تلك العلاقات منذ البداية.

كما أكدت وزارة الخارجية الصينية أن العلاقات الدبلوماسية مع مصر التى بدأت عام 1956، أطلقت "الذروة الأولى" لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والدول العربية، وفى عام 1965، تم إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وكل من سوريا واليمن والعراق والمغرب والجزائر والسودان والصومال وتونس وموريتانيا وغيرها من الدول، وفى عام 1971، تم استعادة المقعد الصيني الشرعي في الأمم المتحدة، مما أتى بـ "الذروة الثانية" لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والدول العربية، حتى عام 1978، تم إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وكل من الكويت ولبنان وجزر القمر والأردن وعمان وليبيا وغيرها من الدول.

وذكرت الوزارة- في تقرير بثته  وكالة (شينخوا) الصينية للأنباء- أنه  في نهاية عام 1978، بدأت الصين تنفذ سياسة الإصلاح والانفتاح، مما دفع بـ "الذروة الثالثة" لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والدول العربية، وحتى عام 1990 تم إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وكل من جيبوتي والإمارات وقطر وفلسطين والبحرين والسعودية وغيرها من الدول، إلى هنا تم إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وجميع الدول العربية.

وأضافت: "ظلت الصين تدعم نضال الشعوب العربية ضد الإمبريالية وكسب الاستقلال القومي والحفاظ عليه، وتدعم حكومات الدول العربية لانتهاج سياسة عدم الانحياز والمسالمة والمحايدة، وتدعم تطلعات الشعوب العربية إلى تحقيق التضامن والوحدة بطرق اختارها أنفسهم، وتدعم الدول العربية لتسوية النزاعات بينها عبر التشاور السلمي، وتدعو إلى ضرورة احترام سيادة الدول العربية من قبل جميع الدول الأخرى، وترفض الاعتداء والتدخل من أي طرف، الأمر الذي نال ثقة الدول العربية وشعوبها، وأرسى أساسا سياسيا متينا للتطور المستمر والسريع للعلاقات الصينية العربية".

وأشارت إلى أنه خلال الحرب الباردة، نشأت وتطورت حركة عدم الانحياز التي بادر إليها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ورئيس يوغوسلافيا جوزيف بروز تيتو ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، ومع اهتمام الصين بتطوير وتعزيز العلاقات مع حركة عدم الانحياز، وتعميق التعاون مع الدول النامية الغفيرة بما فيها الدول العربية، الأمر الذي فتح عهدا جديدا لوحدة الدول النامية، ودفع عملية تعددية الأقطاب والعولمة الاقتصادية إلى الأمام.

وأوضحت أن الدول العربية قدمت دعما قويا للصين في استعادة مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة ومسألة تايوان وغيرها من المسائل، في عام 1971 تم اعتماد مشروع القرار المطروح من قبل الجزائر وألبانيا بأغلبية ساحقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث صوتت 76 دولة بما فيها 13 دولة عربية لصالح مشروع القرار، مما أعاد المقعد الشرعي إلى جمهورية الصين الشعبية في الأمم المتحدة منذ ذلك الحين الذي يعد لحظة مفصلية خالدة في تاريخ العلاقات الدولية.

وأشارت الخارجية الصينية إلى أنه منذ ثمانينات القرن الماضي وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، تعمل الصين والدول العربية على دفع تعددية الأقطاب للقوى الدولية ودمقرطة العلاقات الدولية، وتعمل سويا على الدفع بإقامة نظام جديد أكثر عدلا وديمقراطية، والتركيز على الدعوة إلى احترام ميثاق الأمم المتحدة والقواعد الأخرى المعترف بها في العلاقات الدولية، والتمسك بمبدأ مساواة السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وحق جميع الدول في المشاركة المتساوية في الشؤون الدولية مهما كانت كبيرة أو صغيرة، قوية أو ضعيفة، فقيرة أو غنية؛ ودعم حقوق كافة الشعوب لكسب الحرية والاستقلال والسيادة على جميع أراضيها وفقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

وأكدت أن هذه الرؤى التي تعكس المطالب السائدة للدول النامية ساهمت في صيانة المصالح المشتركة للدول النامية وتدعيم القضية العادلة للسلام والتنمية في العالم ، منوهة  بعلاقاتها الاقتصادية مع الدول العربية، والتي تتمتع بدرجة عالية من المزايا التكاملية اقتصاديا، حيث بدأ التبادل التجاري بين الجانبين قبل إقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية، مشيرة إلى أن تمتع الدول العربية بالموارد والطاقة الوافرة، حيث يشكل حجم احتياطي النفط في الدول العربية 55.7% من احتياطي النفط المثبت في العالم.

وقالت إنه مع تطور العلاقات بين الصين والدول العربية، نما حجم التبادل التجاري بين الجانبين بسرعة، وازدادت نسبة التجارة النفطية بين الجانبين من إجمالي التبادل التجاري، وفي فترة العقود الأربعة من عام 1970 إلى عام 2010، ازداد حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية بأكثر من 620 ضعفا، وازدادت الواردات النفطية الصينية من الدول العربية بحوالي 30 ضعفا في فترة العقدين من بداية التسعينات إلى عام 2010.

وأضافت أنه بعد انتهاء الحرب الباردة، شهدت العولمة الاقتصادية تطورا معمقا، وشهد التعاون بين الصين والدول العربية في كافة المجالات تطورا سريعا وشاملا، حيث أصبحت الدول العربية أهم موردي الطاقة وشركاء التعاون الاقتصادي والتجاري للصين، وهي توفر نصف الواردات الصينية من النفط الخام لزمن طويل، ويتعمق التعاون العملي المتركز على النفط الخام والبتروكيماويات بين الجانبين، مما أقام علاقات الشراكة الاستراتيجية المستقرة والموثوق بها بينهما في مجال الطاقة، ومع التطور المتسارع للعملية الصناعية في الدول العربية، يتقدم التعاون الصيني العربي في مجالات الاستثمارات الصناعية والتواصل والترابط والمقاولات الهندسية على نحو معمق.

تطورات صينية

استقراء حاضر ومستقبل العلاقات العربية الصينية يوجب أن ننظر إلي مسار التطورات علي الساحة الصينية ، حيث  جاء  مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني  الأخير ليمثل  الحدث الأبرز في البلد الأسيوي، حيث تم الإعلان  خلال المؤتمر  عن مراجعة سياسات الصين وعرض الإنجازات التي تم تحقيقها، والخطط المستقبلية التي سيتم العمل عليها ،  كما  تم تغيير الهيكل القيادي للحزب، حيث تم انتخاب لجنة مركزية جديدة، فضلا عن تجاوز معيار الحد العمري، والتأكيد على مركزية الحزب في قيادة النهضة الصينية ، فيما استطاع  الحزب   تحقيق إنجازات سياسية واجتماعية وضعت للرئيس شي جين بينج أرضية قوية وصلبة لقيادة الحزب لفترة ثالثة ، كما أصبحت  الصين أصبحت قوة فاعلة في النظام الدولي لا يمكن بأي حال تجاوزها، فالصين سعت لبناء دولة اشتراكية على نحو شامل.

 كذلك ركز  مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني ر  على التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة، كما ركز على أهمية مكافحة الفقر وتحديات الاقتصاد والبطالة ، وركز كذلك وبقوة  على فكرة الأمن، بعدما كان يتم التركيز سابقا على التنمية الاقتصادية، حيث أكد  الحزب   على خلق نوع من التوازن بين الأمن والاقتصاد على عكس السابق، كما أبرز الحزب أهمية الاستثمار في الطلب المحلي لجعل الصين صاحبة اكتفاء ذاتي واستقلال اقتصادي عن الغرب.

وهناك العديد من  التحديات التي تواجه الصين خلال المرحلة الراهنة، والتي تتمثل في تباطؤ النمو الاقتصادي والأزمة البيئية وأزمة المناخ، فضلا عن استمرار انتهاج الصين سياسية "صفر كوفيد"، إلى جانب الأزمة الروسية الأوكرانية، وأزمة تراجع الاستهلاك من الطلب المحلي ، كذلك فإن  التوترات التي تشوب علاقات الصين مع دول الغرب،  حولت تلك العلاقات التي كانت قائمة على التعاون إلى التنافس،  فيما تعد  التحالفات المناوئة التي أقامتها الولايات المتحدة الأمريكية مع عدد من القوى الدولية ضد الصين  ،  من أبرز التحديات التي تواجه بكين.

ومؤخرا أعلن مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني رفضه سياسات الهيمنة علي النظام الدولي ، كما يتوقع وجود قدر أكبر من الانفصال الاقتصادي بين أمريكا والصين، فضلا عن استمرار التحديات التي تواجه الصين وخاصة التحديات الاقتصادية، والتي ستظهر مدى قدرة بكين على التكيف مع تلك التحديات واجتيازها.

هناك تحديات تواجه الاقتصاد الصيني أيضا ، و تتمثل في التحدي المتعلق بدعم الشركات المملوكة للدولة على حساب القطاع الخاص، الأمر الذي أثر بدوره على دور القطاع الخاص في التنمية ، كما تواجه  الصين   تباطؤ  في الإنتاج، وازديادا في معدلات البطالة، وانخفاضا في الأجور، فضلا عن مشكلات أخرى تلقى بظلالها على الاقتصاد ويكون لها مردود اقتصادي وسياسي ، حيث تواجه الصين ركودا في سوق العقارات، الأمر الذي أدى بدوره إلى انخفاض الطلب على عدد من الصناعات الاستراتيجية ، وأهمها صناعة الحديد والصلب، والسلع الاستهلاكية.

وتواجه  الصين   تحديا آخر، يتمثل في التغيرات المناخية،  حيث واجهت البلاد    موجة حارة وجفاف، في شهر أغسطس الماضي، تعد الأعنف في تاريخها الحديث، الأمر الذي أدى إلى انقطاع الكهرباء لفترات طويلة في الصين، ما أثر على الكثير من المصانع هناك، والتي أصبحت غير قادرة على توفير الكهرباء لعمليات الإنتاج، كما تعاني من الشيخوخة وارتفاع متوسط الأعمار مع قلة الإنجاب.

  الجيش الصيني كان قوة تقليدية قبل 20 عاما، مقارنة بالقوى الدولية، ولكن الرئيس الصيني عمل على إعادة بناء القوة العسكرية لبلاده من خلال انتهاج سياسة تسليح جديدة تماما تعتمد على التسلح الاستراتيجي ، وعرفت الصين   نموا عسكريا كبيرا،  و أصبحت قادرة على صناعة تنمية دفاعية مثل التنمية الاقتصادية،  و تسلح الفضاء .

  التطور في العلاقات الصينية العرية  إذن مرتبط بتطورات البيئة الدولية والحصار الذي تحاول أمريكا والغرب فرضه على الصين، لذلك تسعي الصين  إلى التمدد في المناطق التي شهدت فراغا في النفوذ السياسي الغربي مثل الشرق الأوسط.

 تنافس صيني أمريكي

 تبحث  الصين   عن مناطق تنافس بها الولايات المتحدة، مقابل ما تقوم به أمريكا في آسيا، فمنطقة الشرق الأوسط للولايات المتحدة فيها نفوذ كبير، وتأتى القمة الصينية العربية في إطار تطور وازدهار العلاقات السعودية الصينية ، كما    تأتي في سياق التنافس على النفوذ من جانب الدول الغربية  داخل منطقة  الشرق الأوسط،  ، وخاصة في ظل ما تركته الأزمة الروسية الأوكرانية من تداعيات سلبية على دول المنطقة والعديد من الدول الأخرى واقتصاداتها خصوصا في ملف الطاقة وبحث الدول عن مصادر بديلة للطاقة  ، فيما يبدو أن القمة جاءت تعبيرا عن خروج التحالفات العربية عن المدار الأمريكي ، والذي تدور فيه منذ عقود ، في ظل الهيمنة الأمريكية علي النظام الدولي .

وخلال القمة الخليجية الصينية ، قال الرئيس الصيني  شى جين بينج  إن  الدول الخليجية والصين يمكنها تحقيق التكامل الاقتصادي والصناعي، موضحا أن مجلس التعاون الخليجي نجح فى تخطى التحديات العالمية ، وتابع  : "نعمل سويا على تحقيق مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وعلينا تعزيز شراكتنا الاقتصادية وتحقيق التكامل ودفع التنمية ، وقال الرئيس الصيني: "سنواصل دعمنا الثابت لأمن دول الخليج، ونرحب بمشاركة الدول الخليجية فى مبادرة الأمن العالمي" .

 وأضاف : "سنعمل على إنشاء المركز الخليجي الصيني للأمن النووي، وسنقوم بإنشاء مجلس استثمار مع دول الخليج"  ، مشيرا إلي أن  جهود بلاده تتضافر مع دول الخليج لتفعيل نظام المدفوعات بالعملات المحلية ، وقال  الرئيس الصيني: "نرحب بدخول رواد فضاء عرب لمحطة الفضاء الصينية، وسنخلق مسارات جديدة للتعاون اللغوي والثقافي مع دول الخليج  . 

 اللافت أن هناك رغبة خليجية في  إقامة شراكة استراتيجية وحوار استراتيجي ممتد مع الصين ، وهو ما يظهر في حفل استقبال الرئيس الصيني على عكس الحفل الذي أقيم للرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو ما يظهر التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة.

  كما  أن السعودية ومصر تقودان طموحات عربية كبيرة   فى توطين التكنولوجيا بالدول العربية،  ويحقق تطور  العلاقات الصينية العربية للبلدين هذا الهدف   ، خاصة وأن المبادرة التنموية الصينية العربية "الحزام والطريق" سيكون لها انعكاس كبير على الدول العربية ، وهذه الممرات  تطور التعاون في  العديد من مجالات التكنولوجيا بين  الجانبين ، حيث نجد ممرات   التنمية قائمة في بلاد عربية كمصر  ، ومنها المدن الجديدة، والقطارات الكهربائية والطرق المطورة .

 بناء للمستقبل

   الصين لاعب رئيسي على مستوى العالم ومنافس في الأسواق العالمية،  كما  أن مصر والسعودية ودول العالم العربي قلب العالم والتنافس الدولي ، وكان النظام العالمي  لعقود  أحادي القطب،  ،  لكن يبدو  من المؤتمرات  والتحركات العربية الأخيرة الآن خروج العالم العربي من هذا المدار ، فالعالم  العربي الآن هو الذي يحدد المدار الذي يسبح فيه ، في ظل أن المنطقة العربية غنية ومليئة   بالموارد وهي قلب العالم،  ومنطقة  ذات أهمية استراتيجية وأمنية.

 من الواضح جدا  أن هناك فرصة وقاعدة راسخة يمكن البناء عليها لخلق مزيد من التطوير في العلاقات بين الجانبين العربي والصيني ؛ لتصبح نموذجا للعلاقات الدولية والنظام العالمي الجديد الذي نتطلع إليه والقائم على الشراكة وليس التبعية وعلى الإيمان بتحقيق المصالح والمصير المشترك بين الطرفين.

 و ما حققته الصين من تقدم يمثل نماذج ناجحة  بالنسبة لنا كعرب في جميع نواحي التنمية،  كما  أن ما تشهده العديد من الدول العربية ومنها مصر من جهود حثيثة نحو الانفتاح والإصلاح ، يمثل  تربة خصبة للعمل معا، إلى جانب دعم الجهود لانتشال بعض الدول العربية التي واجهت صراعات داخلية للعودة لطريق الاصلاح والتنمية، وبذل جهود حثيثة لحل القضية الفلسطينية، والقضاء على الإرهاب والتطرف، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي والسلام.

 و الصين شريك اقتصادي أساسي واستراتيجي، وتجمعها مع الدول العربية مساحة مشتركة من القيم تتمثل في تأكيد الجانبين على احترام سيادة الدول، ورفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، ورفض فرض الوصاية الأجنبية ، وهناك تأكيد من الخبراء علي ضرورة دفع بكين للانخراط بشكل أكبر في القضايا السياسية للعالم العربي، ومساندة هذه القضايا بوضوح وبكل الحسم، خاصة وأن الصين قوة فاعلة في النظام الدولي، لا يمكن بأي حال تجاوزها، وينتظر منها عربيا أن تقوم حاليا بدور سياسي أكبر لدعم القضايا العربية .

  كذلك تتميز الصين  بسمة تجعلها متفردة مختلفة عن الدول الأخرى، وهي استثمارها في البنية التحتية، كما أن هناك مساحة مشتركة من القيم بين الدول العربية والصين، تتثمل في تأكيد الجانبين على احترام سيادة الدول ورفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، ورفض فرض الوصاية الأجنبية.

كما تقدم  الصين   رؤية فاعلة قائمة على التعددية ورفض فكرة الأحادية القطبية في النظام الدولي ، إلى جانب رفض فكرة العودة إلى الحرب الباردة،  فضلا عن أنها نموذج تنموي فريد تسعى للحفاظ على مشروعها التنموي الوطني .